شمائله
الدعوة الجهرية
مرحلة الدعوة الجهرية
امر الله سبحانه رسوله صلى الله عليه و سلم ان يجهر بالدعوة و يبدا بعشيرته و أهله ، فقال تعالى : { و أنذر عشيرتك الأقربين } _[الشعراء:214] فنادى الرسول صلى الله عليه و سلم قريشا ، و قال : ( يا بني كعب أنقذوا انفسكم من النار ، يا بني عبد شمس انقذوا أنفسكم من النار ، يا بني عبد مناف أنقذوا أنفسكم من النار ، يا بني هاشم و بني عبد المطلب انقذوا انفسكم من النار ، يا فاطمة انقذي نفسك من النار ، فاني و الله لا املك لكم من الله شيئا الا أن لكم رحما سابلها ببلالها (ساصلها) ) _[مسلم].
و نزل هذا الكلام على قلوب الكفار نزول الصاعقة ، فقد أصبحت المواجهة واضحة بينهم و بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ، انه يطلب منهم أن يتركوا الأصنام التي يعبدونها ، و ان يتركوا الفواحش ، فلا يتعاملون بالربا ، ولا يزنون ، ولا يقتلون اولادهم ، ولا يظلمون احدا ، لكنهم قابلوا تلك الدعوة بالرفض ، وبدءوا يسخرون من النبي صلى الله عليه و سلم ، و من دعوته ، فصبر صلى الله عليه وسلم عليهم وعلى تطاولهم .
و ذات مرة ، كان النبي صلى الله عليه و سلم يطوف بالبيت ، فتطاول عليه بعض الكفار بالكلام ، و لكنه صبر عليهم و مضى ، فلما مر عليهم ثانية تطاولوا عليه بمثل ما فعلوا ، فصبر ولم يرد ، ثم مر بهم الثالثة ، فتطاولوا عليه بمثل ما فعلوا أيضا ، فقال صلى الله عليه وسلم لهم : ( أتسمعون يا معشر قريش ؟ أما و الذي نفسي بيده ، لقد جئتكم بالذبح ) فخاف القوم حتى ان اكثرهم وقاحة اصبح يقول للرسول صلى الله عليه و سلم بكل أدب : انصرف يا أبا القاسم ، انصرف راشدا ، فوالله ما كنت جهولا .
و ذات يوم ، أقبل رجل من بلد اسمها ( إراش ) إلى مكة ، فظلمه أبو جهل ، وأخذ منه إبله ، فذهب الرجل إلى نادي قريش يسألهم عن رجل ينصره على أبي جهل ، و هنا وجد الكفار فرصة للتسلية و الضحك و السخرية من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأمروا الرجل أن يذهب إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ليأخذ له حقه ، فذهب الرجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و اخذوا ينظرون اليه ليروا ما سيحدث ، فقام النبي صلى الله عليه و سلم مع الرجل ليعيد له حقه من ابي جهل ، فأرسلوا وراءه أحدهم ؛ ليرى ما سوف يصنعه ابوجهل مع رسول الله صلى الله عليه و سلم ، فذهب الرسول صلى الله عليه وسلم الى بيت ابي جهل ، و طرق بابه ، فخرج ابو جهل من البيت خائفا مرتعدا ، و قد تغير لونه من شدة الخوف ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( أعط هذا الرجل حقه ) فرد أبو جهل دون تردد : لا تبرح حتى اعطيه الذي له ، و دخل البيت مسرعا ، فأخرج مال الرجل ، فأخذه ، وانصرف .
وعندما أقبل أبو جهل على قومه بادروه قائلين : ويلك ! ما بك ؟ فقال لهم : والله ما هو إلا أن ضرب علي و سمعت صوته فملئت منه رعبا ، ثم خرجت إليه ، و إن فوق رأسه لفحلا من الإبل ما رأيت مثلَه قط ، فوالله لو أبيت لأكلني . [البيهقي]
وبدأ كفار قريش مرحلة جديدة من المفاوضات ، فذهبوا إلى أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا له : يا أبا طالب ، إن ابن أخيك قد سب آلهتنا ، و عاب ديننا ، و سفه أحلامنا ، و ضلل آباءنا ، فإما أن تكفه عنا ، وإما أن تخلى بيننا وبينه ، فرد عليهم أبو طالب ردا رقيقا ، فانصرفوا عنه.
ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم استمر في إظهار دين الله ودعوة الناس إليه، فجمع الكفار أنفسهم مرة أخرى وذهبوا إلى أبي طالب، فقالوا له: يا أبا طالب، إن لك سنا و شرفا ومنزلة فينا ، و إنا قد استنهيناك من ابن أخيك فلم تنهه عنا، وإنا والله لا نصبر على هذا من شتم آبائنا، وتسفيه أحلامنا، وعيب آلهتنا، حتى تكفه عنا، أو ننازله وإياك في ذلك حتى يهلك أحد الفريقين.
وأرسل أبو طالب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جاء قال له: يابن أخي! إن قومك قد جاءوني، وقالوا كذا وكذا فأَبقِ علىَّ وعلى نفسك، ولا تُحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت، فاكفف عن قومك ما يكرهون من قولك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعمه: (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري، ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك فيه) فقال أبو طالب: امضِ على أمرك وافعل ما أحببت، فوالله! لا أسلمك لشيء أبدًا.
لم يستطع المشركون أن يوقفوا مسيرة الدعوة للإسلام، ولم يستطيعوا إغراء الرسول صلى الله عليه وسلم بالمال أو بالجاه، وقد خاب أملهم في عمه أبي طالب، وها هو ذا موسم الحج يقبل ، والعرب سوف يأتون من كل
مكان، وقد سمعوا بمحمد ودعوته، وسوف يستمعون إليه وربما آمنوا به ونصروه، فتسرب الخوف إلى قلوب الكفار في مكة، وفكروا في قول واحد يتفقون عليه ويقولونه عن محمد صلى الله عليه وسلم حتى يصرفوا العرب
عنه، فالتفوا حول الوليد بن المغيرة، وكان أكبرهم سنا؛ فقال أحدهم : نقول إن محمدا كاهن ، فقال الوليد: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكهان فما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه، فقالوا: نقول إن محمدًا مجنون، فقال لهم: ما هو بمجنون لقد رأينا الجنون وعرفناه، فقالوا: نقول إن محمدا شاعر، فقال لهم: ما هو بشاعر لقد عرفنا الشعر كله فما هو بالشعر، فقالوا: نقول ساحر، فقال لهم: ما هو بساحر ، لقد رأينا السحرة و سحرهم و ما هو منهم.
فقالوا للوليد بن المغيرة: فما تقول يا أبا عبد شمس؟ فأقسم لهم أن كلام محمد هو أحلى الكلام وأطيبه، وما هم بقائلين من هذا شيئا إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا: إن محمدا ساحر يفرق بين المرء وأخيه وبين الرجل وزوجته والرجل وأبيه، فوافق الكفار على رأيه وانتشروا في موسم الحج يرددون هذه الافتراءات بين الناس، حتى يصدوهم عن دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة قوله: {ذرني ومن خلقت وحيدًا . وجعلت له مالاً ممدودًا . وبنين شهودًا . ومهدت له تمهيدًا . ثم يطمع أن أزيد . كلا إنه كان لآياتنا عنيدًا . سأرهقه صعودًا . إنه فكر وقدر . فقتل كيف قدر . ثم قتل كيف قدر . ثم نظر . ثم عبس وبسر . ثم أدبر واستكبر . فقال إن هذا إلا سحر يؤثر . إن هذا إلا قول البشر . سأصليه سقر . وما أدراك ما سقر . لا تبقي ولا تذر . لواحة للبشر . عليها تسعة عشر} _[المدثر:11-30].
إسلام عمر بن الخطاب :
دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الله أن يعز الإسلام بأحد العمرين: عمر بن الخطاب، أو عمرو بن هشام، وكان عمر بن الخطاب قبل أن يسلم شديد الإيذاء للمسلمين، وذات يوم حمل عمر سيفه، وانطلق يبحث عن محمد ليقتله، وفي الطريق قابله رجل، وأخبره أن أخته فاطمة قد أسلمت هي وزوجها سعيد بن زيد، فاتجه عمر غاضبًا نحو دار أخته، ودق الباب، وكان الصحابي خباب بن الأَرَتِّ -رضي الله عنه- يعلِّم أخت عمر وزوجها القرآن الكريم، فلما سمعوا صوت عمر امتلأت قلوبهم بالرعب والخوف، وأسرع خباب فاختبأ في زاوية من البيت، ودخل عمر فقال: لقد أُخبرت أنكما تبعتما محمدًا على دينه، ثم ضرب زوج أخته، وضرب أخته على وجهها حتى سال الدم من وجهها، ولكنها لم تخف، وقالت له في ثبات وشجاعة: نعم أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما شئت.
ندم عمر على ما صنع بأخته، وطلب منها الصحيفة التي كانوا يقرءون منها، فقالت له: يا أخي إنك نجس وإنه لا يمسه إلا المطهرون، فقام عمر فاغتسل، فأعطته الصحيفة، فقرأ عمر: بسم الله الرحمن الرحيم {طه . ما أنزلنا عليكم القرآن لتشقى . إلا تذكرة لمن يخشى . تنزيلا ممن خلق الارض والسموات العلى . الرحمن على العرش استوى . له ما في السموات وما في الأرض وما بينهما وما تحت الثرى . وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر
وأخفى . الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى} _[طه:1-8].
وكانت هذه الآيات نورا جذب عمر إلى الإسلام وأضاء له طريق الحق، فما إن قرأها حتى لان قلبه، وهدأ طبعه، وذهب عنه الغضب، وقال -والإيمان يفيض في جوانحه-: ما أحسن هذا الكلام وما أكرمه، ثم ذهب إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه ، و بعد قليل من إسلام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- سار رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة في وضح النهار بين عمر بن الخطاب وحمزة بن عبدالمطلب -رضي الله عنهما- وامتنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بهما، وكان المسلمون لا يقدرون أن يُصَلُّوا عند الكعبة حتى أسلم عمر بن الخطاب، فلما أسلم هو وحمزة بن عبدالمطلب صلى المسلمون عند الكعبة.